استسلمتُ له أخيراً.. تركتُه يسحبني على الأرض التي يريد، خشنة تمتلئ بالتعرجات والطوب المختلف البروزات، أو لعله يتخير أرضاً أكثر حناناً منّي.. يسحبني عليها ببطء. شجني غير متراص بدقة.
ها.. تركتهم بالخارج بهمّهم الشاغل وانسحبتُ ببطء.. الحقيقة أنني لم أحتج لكل ما أحاول أن أوحي به هنا من تخطيط وحرص كي أستطيع التملص من عيونهم المثبّتة عليّ. لا أحد يهتم كثيراً.
مممممم.. حسناً، لا أقصد لا مبالاة جارحة أو عدم اهتمام بشخصي مثلاً.. على الإطلاق! هو فقط.. موقف طرفي المقص.. كلاهما يعملان بالضرورة في نفس الوقت، بذات الشكل.. كي يتم المُراد. والمراد هنا تركي أشعر بانسحابي ببطء، كأنهم لا يشعرون بذلك، وكأنني اختفيتُ خِلسةً داخل حجرتي.. “كأن” تفيد عدم صدق كل ذلك بدبلوماسية تروق الجميع.
الـ شقة الجديدة! هذه المرة “العِزال” حقيقيٌ! فم السيارة يمتلئ بالكثير، تخرج بنا الآن خارج نطاق الهواء. تخترق حدود عقولنا الصغيرة، تلك التي اعتادت المكان الضيق، الحوار الضيق، الحرية المستترة، والأحلام المنتفخة.
أضع الـ”هيدفون” سريعاً.. هرباً من سقف السيارة وأبوابها التي تشع حرارةً.. انفتاحاً على ذرات الرياح بالخارج، هرباً من الحوار العاديّ.. القرآن بالراديو: خلفية ثابتة، نحن في مهمة رسمية، لماذا لا نبدو كأسر الأفلام العربية القديمة؟ نحن في النهاية ننتقل لنخرج من شرنقةٍ ما، لنفرح..
لماذا لا نفرح؟
الهواء يصر على مصافحة وجهي بقوةٍ. أكتفي بتركي بين كفيه دون قدرة حقيقية على المصافحة بذات القوة.. أكتفي بلمسة من الريح تضرب عنقي ومعتقداتي على خطٍ مواز..
فيروز تزلزل السيارة.
مشهد “دائماً” داخلي:
النجّار بالخارج = “اجروا على جوّا”
الحجرة تلك المرة أوسع قليلاً. لها نافذة تطل على سرداب صغير. مغلقة كالعادة.
ونحن كالعادة…..
إلى أين سحبني القلم؟ أين أولى بلاطات الجرّ؟
آه.. أجلس بحجرتي الصغيرة.. ها بدتْ أكثر اتكاءاً الآن على نظافتها.. زواياها تتشكل كل دقيقة بمظهرٍ مختلف.. أو هكذا تتصنع.
يمكنني الآن لمس الأرض بقدميّ الحافيتين على الأقل.
يعملون بجدّ في الخارج، ينقلون الأثاث، يعيدون الترتيب، يغسلون عيون الحائط.. ابتسمتُ وأنا أتخيل “ماما” تضع أدوات الماكياج أمامها لتصلح من هيئة المكان.
“هنحط البوفيه فين؟”
“الأنتريه.. أربع مراسي وكنبتين يا بابا”
النافذة تطل على الشارع بجرأة. اعتدنا المكوث داخل حجرة مغلقة بشقة مغلقة ببيت صغير مغلق بركن شارعٍ ضيق، لا يرانا فيه سوى الله.
(يا طير يا طاير على اطراف الدِنا.. لو فيك تحكي للحبايب شو بنا)
ماذا يستطيع الطير أن ينقل لو تركته يذهب؟ لماذا لا أملك طيراً كي أتركه ذات جنون ينطلق؟ لن أملك.. لا أحب فعل الامتلاك! سأحرره فقط.. أعتق رقبته! هل سينقل شيئاً؟ هل يعرف ما أحياه؟ يحفظ الأحداث جيداً؟ هل يتحدث لو تحتم عليه ذلك؟ لِـ “من”؟!
تحكي للحبااايــ ـــــــبـــ……… !
“الحبايب” فقط!
(يا قلبي لا تتعب قلبك)
فيروز متيقظة بشدة!
الفتور يتراكم حولي. أُصاب إثر الضيق بسِمنة مفرطةٍ مفاجئة. أريد البكاء.
ينفع استنى هنا يوم زايد………… لوحدي؟
………… ……….. …………………………..
“شقٌ جديد”
غداً أول الأسبوع.. العمل.. القصيدة الجديدة.. لا مشاريع جديدة للحب.
أيّ! دبدبة النمل في طرف إصبعي تؤلم حلقي وتثير رغبتي في الموتِ نهاراً.
(فِـ برد الليل.. وخوف الليل)
كنتُ على درب المقاطعةِ للمنتجات الصهيونية..أو كما يقولون. سقطت تلك الحافة بما عليها بكل تركيز أيضاً..
“بيبسي دايت.. انتي مش مقاطعة!”
(وصار يجري وينساني وانا باجري فـ طريق تاني)
“هل ينسى من أحَبَّ.. من أحَب؟”
أبتسم.. فقط.. إذا بالفعل “أحَبَّ”
صح؟
أتذكر جملة كتبتُها ذات مرة، أنساها!
(أمس انتهينا فلا كنا ولا كانَ)
عودة قويّة لفيروز.. تكتسح!
يضغط النوم أجفاني فجأةً.. صحيح أنهم يكدّون بالخارج، وأنني أبروز أحقادي وأحزاني بالداخل.. صحيح أننا اتفقنا ضمنياً أنني تسربتُ خلسةً وأنهم لم ينتبهوا لاختفائي تماماً.. وأن كلانا لم يغضب لشئ (اختفائي/ لا مبالاتهم) غير أن مشهد نومي إضافةً لذلك.. سيجعلهم يطالبون بتهذيب صوت فيروز وشعرها أيضاً.
لماذا أُحاسَبُ على نيّات متراكمة لغيري؟ لم أقصد أي سوء بتلك الكلمة! فقط وضعتُ خطاً تحت “لا يوجد ملاك بتلك الدنيا!”
فقط!
لماذا تنتقل الكلمات في دوائر سوداء/ رمادية في شرائح ضيقة لا تتسع حتى للتحديق بها طويلاً؟
أشعر.. بكمّ مبالغ فيه من الاستياء.. كلمت الحب المريضة.. ايحاءات الحنان المبتذلة، تكثيف الاهتمام والحنان.. الانبهار والروعة وما إليها من ملائكيات مفتَقَدة.. قلوب بيضاء.. ودموع قريبة الحضور.
إصبعي يؤلمني قليلاً.
(تعرف الانسان من الطلّة………. تعرف الانسان من الشُوفة)
فؤاد حداد.. لكن “مش دايماً”
المراتب على الأرض. أحب النوم عليها هكذا. فقط هو صراخ الناموس قرب قلبي، يقلق نوم روحي على طرف المرتب النائمة بدورها على الجانب الأيمن.
فلان مغرم بكِ.. تعرف، تبتسم، تصمت في يأس.
فلان يحلم بكِ من من….. أكيد، توقن من ذلك.. “يحلم” فقط.
فلان يراجع قلبه ونفسه.. “ينفع؟” .. أخبريه أن……….
(يا أسفاً للعمر كيف ضاع!)،،،، يا فيروز بالله ارحميني!
مشهد رومانسي بفيلم ما.. أجنبيّ.. قبلة صغيرة.. يقول كان متأكداً أنها……….
كانت في الخامسة والخمسين من عمرها!
رغبتي في الذوبان عند الثلاثين ربما هي مجرد كسل!
أمضمض فمي وتجاويف زمني الماضي في الصباح،
بقعة لا أهتم لوجودها بملابس البيت،
أحكّ جلدي بعادية،
هلالان أسودان يحيطان عينيّ إثر غسل وجهي بغير اكتراث بالكحل المرسوم داخل الدائرتين الفارغتين إلا من النظر.
أتذكر دعوةً تفوّه بها أحدٌ ما بها لفظاً.. أن يارب عَمَىً!
كسل!
الآن لا تملك السيدة أن تشعل أذنيّ بشئ..
حرارة السيارة تكفي لإشعال العالم. خطوة للخلف أو لأي اتجاه! المهم أننا في طريقنا للعودة..
حقاً؟ عائدون للوطن أم منه؟؟“Home Sweet Home”
“يلا”
أمرٌ نافذ الوقع! من الأذن اليمنى إلى ضفة القلب المسئولة عن الخفق القلِق.
أجرّ أفكاري المبتسرة. ربما أتمكن من حفرها داخل لساني إلى حين أفضها على الورق من جديد.. كتبي تجري خلفي ساحبةً نفسها والدرافت الذي أنقل أسلاكي المشدودةِ منه الآن. أجلس بالسيارة.. نفس الجانب الملاصق للسماء، الطريق نفسه لكن اختراقه تلك المرة يعلمنا الغوص داخل الأحاديث الجانبية للأرصفةِ وأوراق الشجر الأبيض والأوتوبيسات المجنونة بالحوادث..
“لو تحدث حادثة ما!”
عموماً.. لا طائل من كل هذا الهُيام. لا خطط قادمة على كلٍ.
فارغة ككوب معدنيّ، ممتلئة كفم سيارتنا العتيقة بالكثير من الأشياء.. آخرها موعد المضاد الحيويّ.. ست ساعات أم ثمان؟؟